من التلمذة إلى التنظيم: تطور التقييم العقاري

من التلمذة إلى التنظيم: تطور التقييم العقاري

من التلمذة إلى التنظيم: تطور التقييم العقاري

مقدمة:

يشكل التقييم العقاري حجر الزاوية في المعاملات العقارية، حيث يحدد قيمة العقار بناءً على أسس علمية ومنهجية. لم يكن التقييم العقاري دائمًا بالصورة التي نعرفها اليوم، بل مر بمراحل تطور متعددة، بدءًا من الاعتماد على الخبرة الشخصية والتلمذة المهنية، وصولًا إلى التنظيم المؤسسي والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة. يهدف هذا الفصل إلى تتبع هذا التطور، مع التركيز على العوامل التي ساهمت في تشكيل مهنة التقييم العقاري كما نعرفها اليوم.

أولاً: عصر التلمذة والخبرة الشخصية

  • الاعتماد على الخبرة: قبل التنظيم المؤسسي لمهنة التقييم، كان الاعتماد الأساسي في تحديد قيمة العقار يعتمد على الخبرة الشخصية للمقيم، والتي غالبًا ما كانت تنتقل عن طريق التلمذة المهنية. كان المقيم يتعلم من مقيم أقدم، ويتدرب على يديه لفترة قد تمتد من ستة أشهر إلى سنتين، ليكتسب الخبرة اللازمة.
  • نظام التصنيف: كانت المؤسسات المالية تصنف المقيمين إلى فئات (Class I إلى Class IV)، حيث كانت الفئات الأدنى (Class I-II) مخصصة للتقييمات السكنية، بينما كانت الفئة الأعلى (Class IV) تشمل التقييمات السكنية والتجارية.
  • أمثلة من الممارسة: كان المقيم يقوم بجمع البيانات عن العقار محل التقييم والعقارات المماثلة في المنطقة، ثم يقارن بينها بناءً على خبرته ومعرفته بالسوق. لم تكن هناك معايير موحدة أو منهجيات محددة، بل كان الأمر يعتمد بشكل كبير على تقدير المقيم الشخصي.
  • العيوب: هذا النظام كان يعاني من عدة عيوب، أبرزها:
    • التحيز: احتمالية التحيز الشخصي للمقيم في تحديد القيمة.
    • عدم الاتساق: اختلاف التقييمات لنفس العقار من مقيم إلى آخر.
    • صعوبة القياس الكمي: صعوبة تحديد قيمة التعديلات على أساس كمي.

ثانياً: التنظيم المؤسسي والتشريعات

  • قانون Garn/St. Germaine: أحدث هذا القانون (Garn/St. Germaine Depository Institutions Act) في ثمانينات القرن الماضي تغييرًا جذريًا في الصناعة المالية، حيث سمح لمؤسسات الادخار والإقراض بالاستثمار في مجالات أوسع، مما أدى إلى انهيار العديد منها بسبب المخاطر العالية.
  • قانون FIRREA: نتيجة لانهيار مؤسسات الادخار والإقراض، تم إصدار قانون إصلاح وإنعاش وتطبيق المؤسسات الفيدرالية (Financial Institutions Reform, Recovery and Enforcement Act - FIRREA) في عام 1989. هذا القانون وضع الأساس لتنظيم مهنة التقييم العقاري، وأنشأ مؤسسة التقييم (The Appraisal Foundation) لوضع معايير التقييم الموحدة (Uniform Standards of Professional Appraisal Practice - USPAP).
  • معايير USPAP: تمثل معايير USPAP مجموعة من المبادئ التوجيهية والإرشادات التي يجب على المقيمين اتباعها عند إجراء التقييمات العقارية. تهدف هذه المعايير إلى ضمان جودة التقييمات وموثوقيتها، وحماية مصالح الأطراف المعنية.
  • التراخيص والتعليم: أصبح الحصول على ترخيص لممارسة مهنة التقييم العقاري ضروريًا، وتطلب ذلك استيفاء متطلبات تعليمية وخبرات عملية محددة. تم تطوير برامج تعليمية متخصصة في التقييم العقاري، مما ساهم في رفع مستوى المهنة.
  • تأثير ذلك على المهنة: أدت هذه التغييرات التنظيمية إلى:
    • زيادة المهنية: ارتفاع مستوى المهنية والاحترافية في ممارسة التقييم العقاري.
    • توحيد المعايير: توحيد معايير التقييم وتقليل التباين بين التقييمات المختلفة.
    • حماية المستهلك: حماية المستهلك من التقييمات غير الدقيقة أو المتحيزة.
  • مثال تطبيقي: لنفترض أننا نقوم بتقييم منزل سكني. بموجب معايير USPAP، يجب علينا جمع البيانات اللازمة عن العقار، وتحليل السوق، وتطبيق منهجيات التقييم المناسبة (مثل طريقة مقارنة المبيعات أو طريقة التكلفة). يجب أن يكون التقييم مستندًا إلى بيانات واقعية وتحليل موضوعي، ويجب أن يتم توثيقه بشكل كامل.

ثالثاً: التكنولوجيا وتطور التقييم العقاري

  • الحوسبة الشخصية: ظهور الحواسيب الشخصية والبرامج المتخصصة أحدث ثورة في عملية التقييم. أصبح المقيم قادرًا على إنجاز المهام بشكل أسرع وأكثر دقة.
  • التصوير الرقمي: ظهور الكاميرات الرقمية سهل عملية توثيق العقار محل التقييم، وأتاح للمقيم إمكانية التقاط صور عالية الجودة وإرفاقها بالتقرير.
  • قواعد البيانات العقارية: ظهور قواعد البيانات العقارية التي تحتوي على معلومات عن العقارات المباعة والمؤجرة في المنطقة، مما سهل عملية جمع البيانات وتحليل السوق.
  • نماذج التقييم الآلية (AVMs): تطورت نماذج التقييم الآلية (Automated Valuation Models - AVMs) التي تستخدم الخوارزميات والإحصائيات لتقدير قيمة العقار. هذه النماذج يمكن أن تكون مفيدة في بعض الحالات، ولكنها لا تغني عن التقييم المهني من قبل مقيم مؤهل.
  • مثال على استخدام نموذج التقييم الالي:
    * لنفترض أن لدينا نموذج تقييم الي يعتمد على نموذج الانحدار الخطي المتعدد (Multiple Linear Regression):
        *   V = β0 + β1 * S + β2 * B + β3 * L + ε
    
            *   حيث:
                *   V: القيمة المقدرة للعقار.
                *   S: مساحة العقار (بالمتر المربع).
                *   B: عدد غرف النوم.
                *   L: موقع العقار (يمكن تمثيله بمتغير وهمي).
                *   β0, β1, β2, β3: معاملات الانحدار.
                *   ε: الخطأ العشوائي.
    
    • تأثير التكنولوجيا: أدت التكنولوجيا إلى:
    • زيادة الكفاءة: زيادة سرعة وكفاءة عملية التقييم.
    • تحسين الدقة: تحسين دقة التقييمات من خلال استخدام البيانات والتحليلات المتقدمة.
    • تقليل التكاليف: تقليل تكاليف التقييم في بعض الحالات.
    • تطبيقات عملية:
      1. تحليل البيانات: استخدام برامج التحليل الإحصائي لتحليل بيانات السوق العقاري وتحديد العوامل المؤثرة في قيمة العقارات.
      2. نظم المعلومات الجغرافية (GIS): استخدام نظم المعلومات الجغرافية لتحليل موقع العقار وتحديد مدى قربه من المرافق والخدمات.
      3. الواقع الافتراضي (VR): استخدام الواقع الافتراضي لزيارة العقارات عن بعد وتقييمها بشكل أفضل.

رابعاً: التحديات المستقبلية والتنظيم المستمر

  • التحديات:
    • النماذج الآلية المتقدمة: تطور النماذج الآلية بشكل كبير قد يهدد دور المقيم البشري في بعض الحالات.
    • البيانات الضخمة: التعامل مع كميات كبيرة من البيانات وتحليلها يتطلب مهارات متخصصة.
    • الأمن السيبراني: حماية البيانات العقارية من الاختراق والتلاعب.
  • التنظيم المستمر:
    • تطوير معايير USPAP: يجب على مؤسسة التقييم الاستمرار في تطوير معايير USPAP لتواكب التطورات التكنولوجية والتغيرات في السوق العقاري.
    • التدريب المستمر: يجب على المقيمين الحصول على تدريب مستمر لمواكبة التطورات في المهنة.
    • التشريعات الجديدة: قد تحتاج الحكومات إلى إصدار تشريعات جديدة لتنظيم استخدام التكنولوجيا في التقييم العقاري وحماية مصالح المستهلكين.
  • قانون SAFE و Dodd-Frank: جلبا المزيد من التنظيم، وقيّدا استخدام نماذج AVM و BPO في منح القروض.

خلاصة:

لقد قطع التقييم العقاري شوطًا طويلاً منذ عصر التلمذة والخبرة الشخصية. التنظيم المؤسسي والتشريعات، بالإضافة إلى التكنولوجيا الحديثة، ساهمت في تحويل المهنة إلى علم قائم بذاته، يعتمد على أسس منهجية ومعايير موحدة. ومع ذلك، فإن التحديات المستقبلية تتطلب من المقيمين والمنظمين الاستمرار في تطوير المهنة ومواكبة التغيرات في السوق العقاري والتكنولوجيا.

ملخص الفصل

ملخص علمي للفصل: من التلمذة إلى التنظيم: تطور التقييم العقاري

يتناول هذا الفصل رحلة التقييم العقاري من ممارسات التلمذة التقليدية إلى التنظيم المهني الحديث، مع التركيز على العوامل الرئيسية التي شكلت هذا التطور.

النقاط العلمية الرئيسية:

  1. مرحلة التلمذة: قبل التنظيم، كان التقييم العقاري يعتمد بشكل كبير على الخبرة العملية المكتسبة من خلال التلمذة لدى مُقيِّمين مُخضرمين. لم تكن هناك حاجة إلى تراخيص أو تعليم رسمي واسع النطاق، بل كانت الخبرة هي المعيار الأساسي. كان المُقيِّمون يُصنَّفون إلى فئات مختلفة، تحدد نطاق عملهم وقدرتهم على تقييم العقارات السكنية والتجارية.

  2. قانون “جارن-سانت جيرمان” وتأثيره: أحدث قانون “جارن-سانت جيرمان” تغييرات جذرية في صناعة الادخار والإقراض، مما أدى إلى انهيار مؤسسات الادخار والقروض (Savings and Loans). سمح هذا القانون لمؤسسات الادخار والإقراض بالاستثمار في مجالات مالية أكثر خطورة، مما أدى إلى خسائر فادحة وتدخل حكومي لإنقاذ الصناعة.

  3. تنظيم مهنة التقييم: أدى انهيار مؤسسات الادخار والقروض إلى إقرار قوانين تنظيمية جديدة، مثل قانون “إصلاح المؤسسات المالية واستعادتها وإنفاذها” (FIRREA). أنشأ هذا القانون “مؤسسة التقييم” (Appraisal Foundation) المسؤولة عن وضع معايير التقييم الموحدة (USPAP)، مما أدى إلى تنظيم مهنة التقييم ووضع معايير واضحة للممارسة.

  4. التطورات التكنولوجية: ساهمت التطورات التكنولوجية، مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الفاكس وأجهزة الكمبيوتر الشخصية، في تغيير طريقة عمل المُقيِّمين. أتاحت هذه التقنيات للمُقيِّمين إنجاز مهامهم بشكل أسرع وأكثر كفاءة، ولكنها أدت أيضًا إلى فقدان الوظائف في بعض المجالات، مثل السكرتارية.

  5. زيادة متطلبات التعليم: مع مرور الوقت، زادت متطلبات التعليم اللازمة للحصول على تراخيص التقييم. وضعت “مجلس مؤهلات المُقيِّمين” التابع “لمؤسسة التقييم” معايير تعليمية أكثر صرامة، مما أدى إلى رفع مستوى التعليم في المهنة.

  6. نماذج التقييم الآلية (AVMs) والممارسات الإقراضية السيئة: سعت بعض الجهات المقرضة إلى خفض التكاليف باستخدام نماذج التقييم الآلية (AVMs) وآراء أسعار السماسرة (Broker Price Opinions) بدلًا من التقييمات التقليدية. بالإضافة إلى ذلك، أدت الممارسات الإقراضية السيئة، مثل قروض “بدون مستندات” (No Doc Loans)، إلى أزمة مالية كبيرة في عام 2008.

  7. زيادة التنظيم في أعقاب الأزمة المالية: أدت الأزمة المالية إلى إقرار قوانين تنظيمية إضافية، مثل قانون “SAFE” وقانون “دود-فرانك”، بهدف حماية المستهلكين وتنظيم صناعة الإقراض والتقييم.

الاستنتاجات:

  • تطورت مهنة التقييم العقاري بشكل كبير من ممارسات التلمذة غير الرسمية إلى مهنة منظمة تخضع لمعايير مهنية وأخلاقية صارمة.
  • لعبت العوامل الاقتصادية والتكنولوجية والتنظيمية دورًا حاسمًا في هذا التطور.
  • تستمر المهنة في التطور مع ظهور تقنيات جديدة وتغيرات في السوق العقاري.

الآثار المترتبة:

  • أصبح المُقيِّمون العقاريون اليوم أكثر احترافًا وتعليمًا من أي وقت مضى.
  • تخضع ممارسات التقييم لرقابة صارمة لضمان الدقة والموضوعية.
  • تستمر التكنولوجيا في لعب دور متزايد في عملية التقييم، ولكن الخبرة والتقدير المهني يظلان ضروريين.
  • يهدف التنظيم المستمر للمهنة إلى حماية المستهلكين والحفاظ على سلامة السوق العقاري.

شرح:

-:

No videos available for this chapter.

هل أنت مستعد لاختبار معلوماتك؟

Google Schooler Resources: Exploring Academic Links

...

Scientific Tags and Keywords: Deep Dive into Research Areas